Monday, December 22, 2008

كورونا بطعم الزبدة! 1


كنت صغيرة، في الصف الخامس الابتدائي، كانت أختي الصغري رضيعة، كانت أمي كبيرة، لها أوجاعها التي كنت أراها فوق وجهها وهي تعنفني دون أن أفهم السبب، كانت تدرس الدكتوراه، تطعمني، وتشتري لي الملابس التي لم أكن أحبها ولكنها كانت تحرص أن أرتدي دائما الجديد.

أذكر أنني عندما كنت أنتهي من عمل الواجب كنت أسمعها تتخبط في أواني المطبخ، وأنا أشاهد العالم في مراتها الفيميه بغرفة النوم الملصوق فوق حوافها صوري وأنا رضيعة، كانت تعكسني فوق سطحها وكأنني تمر حنة، فأرقص أمام المراه الطولية مرتدية اللانجيري الذي كان دائما ما تفوح منه رائحة النافتلين، كنت أنقب عنه في كم الكراكيب المهمل بضرفة الدولاب الكبير.

أكنت علي وعي بأنوثتي منذ حينها؟ أحقا تولد البنت انثي- تمر حنة-، ويولد الولد طفلا قد يحالف الحظ من حوله فيكبر ويكون رجلا- حسن- في يوم ما؟!

*******


فيللا بميدان ابن الحكم، العالم الذي فتح لي بوابة الأساطير، جدتي إنصاف، بيضاء كالحليب، عيناها مكحلة، ممتلأة بخير زمان، ورائحتها تذكرني بال البيت والسيدة، سليلة قبائل بن علي، كتب لها أن تعرف أكثر من رجل، أولهم جدي، وثانيهم نبيل الوقاد، وثالثهم المطيف .. عبد اللطيف، أول ما سمعت اسمه كان في قصيدة حداد"صلينا الفجر فين .. صلينا ف الحسين" ..

ثلاثتهم رجال، كانوا يقدسونها، ويحتمون في ذراعيها من قسوة الأحجار، هل حقا كانت تختارهم، ام كان وليها يختار؟! كيف كانت بهذا الوعي والقوة فتتزوج ثانية بعد رحيل زوجها الأول بل وتتحدي جميع من يأمرونها بحداد أبدي بعد استشهاد الوقاد وتتزوج من عبد اللطيف؟!

لم أري منهم سواه، كان يشبهها، وكان الأب الروحي لوالدي .. علمت أنهم كانوا يحفظون معه مفتاح المقام، كان وحده يدخل مقصورة الحسين، ويلمس الشعرات الثلاث، يشم العبائة، وينم في جواره.

كانت إنصاف تحبني وكنت أعلم أنني أحبها أيضا، لم أفوت يوم جمعة دون أن أذهب إليها في صحبة والدي في فستان جديد، كانت تطعمني الأرز بالملوخية واللحم، كنت أجلس بجوارها علي السرير – بخلاف أبناء وبنات أعمامي حيث كانوا يلعبون معظم الوقت، فهم كانوا مقيمين معها كما كان يبدو لي – أما أنا فكنت أجلس في ريحها، أتعطر بقبلاتها، أردد أنفاسها، وأنام في راحة يديها، ودائما قبل أن أرحل تمد يدها تحت وسادتها، وتعطيني كيس ممتليء بالنقود الفضية، فأعود وأشتري به صباح السبت وأنا في طريقي للمدرسة شوكولاته كورونا سادة بطعم الزبدة التي أفتقدها الان كثيرا .. تماما مثلما أفتقد جدتي إنصاف!


*******

عندما رحلت إنصاف، لم يمت البيت، بل كان الحضن لأبناءه، تظلل عليهم شجرة النبق العجوز والطيبة، تشهدني وأنا أركض من حجرتنا إلي أبناء عمي لأعلن منتصف الليل، نسهر ونلعب ونشرب الشاي باللبن، ونستمع لفارس وهو يعزف الناي .. ويغني

"تملي ف قلبي يا حبيبي"

حتي نفيق علي اذان الفجر، فنصلي وننام نحتضن قلوبنا.

كنت أنام في غرفة شاهقة .. أرضيتها من الخشب، وسقفها بعيد، تطل علي بانوراما الميدان، ومن أمامي شجرة النبق، كنت أكنس الشرفة كل صباح من الأوراق، وأشهد السيارات وهي تتراقص مرورا بالميدان في المساء جالسة وحدي علي كرس حديدي، وكانت أمي تقرأ بالحجرة فوق السرير ..وتستمع الي هذا الراديو الصغير المعلق في مسمار فوق الحائط"

"غواص ف بحر النغم" كان دائما يصاحب لياليها، أذكر ليلة أجلستني بجوارها، وأغلقنا الشرفة حتي نحتجز ضجيج الترام بالخارج، واستمعنا سويا لعمار .. كانت حلقة خاصة عن عبد المطلب، كانت تردد الأغاني وأرددها معها، كان صوتها عذب .. لازلت أسمعها تدندن مع طلب في عشق أنثي لم ترتدي اللانجيري أو تضع المساحيق ..

"صورتنا واحنا سوا .. تشهد يا نور العين .. علي جمال الهوا والود بين قلبين .. صورتنا واحنا .. واحنا سوا".